تحليل قصيدة نهج البردة
شرح وتحليل أبيات نهج البردة للشاعر أحمد شوقي :
مقدمة غزلية
على نهج الشعراء السابقين افتتح شوقي قصيدته بمقدمة غزلية بديعية رائعة ، يتصور فيها محبوبته التي تتنقل كظبي حسن ورشيق ، وقد قتلته صبابة وولها .
ريم على القاع بين البان والعلم * أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا * يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
وعظ النفس
ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى مخاطبة نفسه واعظا إياها ، ومبديا الندم على ما سبق من ذنوبه ، وذلك في أبيات كلها حكم ومعاني راسخة ، لينتقل بعدها إلى غرض وموضوع القصيدة الرئيسي ، وهو مدح خير البرية عليه أزكى الصلاة والسلام .
يا نفس دنياك تخفي كل مبكية * وإن بدا لك منها حسن مبتسم
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه * فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية * والنفس من شرّها في مرتع وخم
مدح أشرف الخلق
صلى الله عليه وسلم ، فمحمد هو سيد المرسلين المصطفى برسالة التوحيد والنبوة ، وهو صاحب الحوض المورود يوم القيامة – نسأل الله شربة من يده الشريفة – .
محمد صفوة الباري ورحمته * وبغية الله من خلق ومن نسم
وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة * متى الورود ؟ وجبريل الأمين ظمي
يقص علينا الشاعر بعد ذلك بعض علامات ومعجزات نبي الرحمة المهداة ، منها قصة الراهب بحيرى المشهورة ، وتفجر الماء بين أصابعه ، وتظليل الغمامة له .
لما رآه بحيرا قال نعرفه * بما حفظنا من الأسماء والسيم
سائل حراء وروح القدس هل علما * مصون سرّ عن الإدراك منكتم
لمّا دعا الصحب يستسقون من ظمإ * فاضت يداه من التسنيم بالسنم
وظلّلته فصارت تستظلّ به * غمامة جذبتها خيرة الديم
ويصف بعد ذلك مشهد نزول الوحي بأول آية وهي : اقرأ ، ثم ينتقل إلى الحديث عن معجزة القرآن الكريم ، بصفته الكتاب الخالد الباقي المتمم لجميع الرسالات السابقة .
ونودي اقرأ تعالى الله قائلها * لم تتّصل قبل من قيلت له بفم
جاء النبيّون بالآيات فانصرمت * وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد * يزينهنّ جلال العتق والقدم
ينتقل الشاعر إلى الحديث عن بشائر مولده صلى الله عليه وسلم ، في الوقت الذي ساد فيه الظلم والجهل والطغيان ، ومن بشائر هذا المولد تصدع إيوان كسرى .
سرت بشائر بالهادي ومولده * في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
تخطّفت مهج الطاغين من عرب * وطيّرت أنفس الباغين من عجم
ريعت لها شرف الإيوان فانصدعت * من صدمة الحقّ لا من صدمة القدم
ذكر معجزاته صلى الله عليه وسلم
وفي أبيات تشع جمالا وبراعة ، تطرق أمير الشعراء إلى معجزة الإسراء والمعراج ، وما لحقها من آيات عظيمة .
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه * والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لمّا خطرت به التفّوا بسيّدهم * كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر * ومن يفز بحبيب الله يأتمم
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم * على منورة درية اللجم
ركوبة لك من عزّ ومن شرف * لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته * وقدرة الله فوق الشك والتهم
حتى بلغت سماء لا يطار لها * على جناح ولا يسعى على قدم
وقيل كل نبي عند رتبته * ويا محمد هذا العرش فاستلم
خططت للدين والدنيا علومهما * يا قارئ اللوح بل يا لامس القلم
يواصل شوقي في ذكر معجزات سيد الخلق ، ويصف مشهد صاحبي الغار ، وحفظ الله لرسوله وصاحبه من كيد المشركين وتتبعهما ، لينتقل بعد ذلك إلى التأدب مع صاحب البردة البوصيري ، إذ يقر بأنه لا يعارضه بقدر ما أنه مجرد تابع وسائر على نهجه .
المادحون وأرباب الهوى تبع * لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك حب خالص وهوى * وصادق الحب يملي صادق الكلم
الله يشهد أني لا أعارضه * من ذا يعارض صوب العارض العرم
وإنما أنا بعض الغابطين ومن * يغبط وليك لا يذمم ولا يلم
ويعقد مقارنة طريفة بينه وبين نبي الله عيسى عليه السلام ؛ فيقول :
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له * وأنت أحييت أجيالا من الرمم
والجهل موت فإن أوتيت معجزة * فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم
دفاع عن الإسلام
يتصدى الشاعر بعد ذلك إلى المعادين للإسلام والذين يكيلون له أبشع التهم ، منها أنه دين حرب انتشر بحد السيف ، موضحا أن اللجوء إلى الحرب كان آخر وسيلة بعد استنفاذ كل السبل في الدعوة والنصيحة .
ويشير إلى ما لقيه المسيحيون الأوائل من جور واضطهاد ، والذي لم يحسم إلا بالقوة ، وفي نفس الوقت يدافع عن المبدأ الإسلامي في الجهاد الذي يلتزم بقواعد الأخلاق تراعي الذمم والمواثيق .
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا * لقتل نفس ولاجاؤوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة * فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعا * وإن تلقه بالشر ينحسم
سل المسيحية الغراء كم شربت * بالصاب من شهوات الظالم الغلم
لولا حماة لها هبوا لنصرتها * بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم
علمتهم كل شيء يجهلون به * حتى القتال وما فيه من الذمم
وفي حديث طويل يعقد أمير الشعراء مقارنة بديعة بين حضارة الإسلام وباقي الحضارات والأمم ، مشيرا إلى تفوق شريعة الإسلام وما بنته من عدل وقيم وأخلاق ، جعلتها في صدارة الأمم علما وسيادة ومعاملات .
شريعة لك فجرت العقول بها * عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها * كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم
نور السبيل يساس العالمون بها * تكفلت بشباب الدهر والهرم
لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت * مشت ممالكه في نورها التمم
وعلمت أمة بالقفر نازلة * رعي القياصر بعد الشاء والنعم
كم شيد المصلحون العاملون بها * في الشرق والغرب ملكا باذخ العظم
للعلم والعدل والتمدين ما عزموا * من الأمور وما شدوا من الحزم
دار الشرائع روما كلما ذكرت * دار السلام لها ألقت يد السلم
اعتزاز وافتخار
ويفتخر الشاعر بخلفاء الإسلام ويشيد بأمجادهم ، ثم يثني على الخلفاء الراشدين مبينا فضلهم على أمة الإسلام .
ولا احتوت في طراز من قياصرها * على رشيد ومأمون ومعتصم
من الذين إذا سارت كتائبهم * تصرفوا بحدود الأرض والتخم
خلائف الله جلوا عن موازنة * فلا تقيسن أملاك الورى بهم
من في البرية كالفاروق معدلة * وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم
وكالإمام إذا ما فض مزدحما * بمدمع في مآقي القوم مزدحم
الزاخر العذب في علم وفي أدب * والناصر الندب في حرب وفي سلم
أو كابن عفّان والقرآن في يده * يحنو عليه كما تحنو على الفطم
ويصف الشاعر بعد ذلك افتتان الناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، وذهول عمر – رضي الله عنه – ، في حين يصور رباطة جأش أبي بكر – رضي الله عنه – وثباته ضد المرتدين .
وما بلاء أبي بكر بمتهم * بعد الجلائل في الأفعال والخدم
بالحزم والعزم حاط الدين في محن * أضلت الحلم من كهل ومحتلم
وحدن بالراشد الفاروق عن رشد * في الموت وهو يقين غير منبهم
يجادل القوم مستلا مهنده * في أعظم الرسل قدرا كيف لم يدم
لا تعذلوه إذا طاف الذهول به * مات الحبيب فضل الصب عن رغم
ختام وابتهال
وينهي الشاعر قصيدته بالصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحابته .
يا رب صل وسلم ما أردت على * نزيل عرشك خير الرسل كلهم
وصل ربي على آل له نخب * جعلت فيهم لواء البيت والحرم
وأهد خير صلاة منك أربعة * في الصحب صحبتهم مرعية الحرم
وفي خشوع وتضرع ، يرفع الشاعر ابتهالا إلى الله ، يدعو بالخير لأمة الإسلام ، في ظل التخلف والتمزق الذي تعيشه ، في حين تسير أمم أخرى نحو التقدم ، مؤمنا بقدر الله وحكمه.