لم يكونوا تُجَّارًا ولا صُنَّاعًا، ولا أطباءَ ولا حُسَّابًا، ولا أصحاب فلاحة فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع لخوفهم صَغار الجزية، ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكارٍ لما في أيديهم وطلبٍ لما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغنى الذي يورث البلادة، والثروة التي تحدث الغرة، ولم يحتملوا ذُلًّا قط فيميت قلوبهم ويُصغر عندهم أنفسهم. وكانوا سكان فيافٍ وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق،٢ ولا البخار ولا الغلط، ولا العفن ولا التخم. أذهان حديدة، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق وتثقيف اللغة وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم والاستدلال بالآثار وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب. بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية، وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر ولأيامهم أذكر.