جيل دولوز.. الفصل الأخير للحرية
كان دولوز مثقّفاً شاهقاً ومفكّراً مبدعاً أثرى شجرة الفلسفة بعديد المفاهيم والمحمولات الفكرية
كان دولوز مثقّفاً شاهقاً ومفكّراً مبدعاً أثرى شجرة الفلسفة بعديد المفاهيم والمحمولات الفكرية
دولوز دوفيل
يعدّ جيل دولوز من الوجوه الفكريّة الأكثر إثارة للجدل ومن أشدّها جاذبيّة في تاريخ الفلسفة المعاصرة، وإنّ فكره الفذّ، الذي قد يرى فيه البعض فكراً غريباً، لحقيق بأن نتوقّف عنده بالدّراسة والتّمحيص والتّدقيق، حتّى نستكشف أغواره ونفكّ بعضا من رموزه. لا جدال في أن الرّجل كان ولا يزال، قامة فلسفيّة سامقة، بل منارة فلسفيّة يستضيء بها كلّ الكادحين على درب الحقيقة، المتطاولين للآفاق القصيّة للمعنى. وإنّه لمن المستغرب حقّا أن تكون أعماله ظلّت إلى حدّ ما غير معروفة، مقارنة بأعمال مفكّرين وفلاسفة آخرين كانوا من مرافقيه ومعاصريه. والحقيقة أنّه ليس من الميسور الاقتراب من فكر دولوز وفلسفته، وهو الذي تناول قضايا جوهريّة غاية في العمق والتنوّع، معتمدا في ذلك لغة قد لا يطالها المرء ما لم يستأنس بها، ويكون قد خبر أسرارها وخفاياها.لئن وسم دولوز الفلسفة المعاصرة بدمغة عميقة، فإنّ كلمات مفردات من كتاباته قد تجعلنا نكتشف رحابة تطلّعاته: «عندما يُعطى الإنسان جسداً بلا أعضاء، يعطى منفذاً للتحرر من ردود فعله التلقائية، عندها فقط يسترجع كامل حريته»، أو.. «الجسد بلا أعضاء هو حالة إبداع، حيث يوضع التحامل جانباً. هي حالة ما قبل الخلق، حيث يكون كل شيء متاح».
فأن نجعل من دولوز وجهتنا الفلسفيّة، فإنّ ذلك يعني حينئذ أن نكتشف عالما آخر شِيدَ بمفاهيم ومصطلحات غير مألوفة، بل غير مسبوقة.
مثقّف محتدم الحماس
لقد كبر جيل دولوز في وسط عائليّ برجوازيّ باريسيّ، ودرج منذ صباه على قضاء عطله الصّيفيّة في مدينة دوفيل. وقد جعله ذلك يلتحق في شبابه بمدرسة خاصّة بهذه المدينة أثناء الحرب، وكانت مدينة دوفيل يومذاك أكثر أمناً من العاصمة. وهناك تحديداً.. سيبدأ تحمّسه للأدب واستكشافه لعالم الفلسفة. وعاد دولوز بعد ذلك إلى باريس سنة 1941، حيث احتكّ بمفكّرين مرموقين خلال تلك الفترة، من أمثال غي موكي، ميشال تورنييه، ميشال بيتور.. وآخرين كثر. وقد أبدى حينها اهتماماً متزايداً بالفلسفة ولكن أيضاً بعلم النّفس.
وكان تفكير سارتر وقراءة أعماله هو الذي استوقف اهتمامه بشكل خاص في بداية رحلته الفكريّة. وكان كتاب «الوجود والعدم»، الذي انطوى على فكر جديد، هو الكتاب الذي ترك بالغ الأثر في فكره، في فترة كانت أوضاع فرنسا لا تزال تتّسم بالكثير من التوتّر بفعل الاحتلال الألماني. ولكن سرعان ما سيُصيب المُعلّم.. مريده.. بخيبة أمل موجعة. ثمّ كان فكر هنري برغسون الذي ساهم إلى أبعد الحدود في تشكّل تفكيره الفلسفي ورؤيته للوجود. وقد تأكّدت نباهة جيل دولوز، وأثبت للجميع أنّه تلميذ استثنائي بالغ التألّق، غير أنّه كان يشكو منذ الصّبا الباكر من صعوبة في التنفّس لن تنفكّ عن إرباكه وإعاقته. ومع ذلك سيغدو وبسرعة مبرّزا في الفلسفة، ثمّ في سنة 1948، أستاذا في هذه المادّة بمدينة ليون. وفي تلك الأثناء سوف يثير الرّجل كما فكره اهتمام القرّاء والمفكّرين وعشّاق الفلسفة، ما بين ممتدح ومنتقد، ليثبت زخمُ الكتابات النّقديّة عنه إلى أيّ مدى غدا جيل دولوز مفكّراً مجدّداً وأحد رموز الفكر الفلسفي المعاصر بفرنسا.
مؤرّخ للفلسفة
لقد عُرف جيل دولوز لفترة طويلة كمؤرّخ للفلسفة أكثر من كونه فيلسوفا. وفي نهاية الخمسينات وبداية الستّينات كانت علاقته المثمرة بميشال فوكو الذي غدا من أصدقائه المقرّبين. وفيما لم ينشر دولوز غير القليل من أعماله حتّى تلك الفترة، غدا في الستّينات كاتبا غزير الإنتاج ومتعدّد التّآليف. وقد كانت كتب دولوز الأولى مهداة إلى فلاسفة أو كتّاب أثيرين، ولكن سرعان ما نشر دولوز كتابات أفصحت بشكل بليغ عن مدى أصالة تأمّلاته الفلسفيّة وعمق أطروحاته التّجديديّة. وكمؤرّخ للفلسفة اعتُبر دولوز صاحب نظرية في مجال التّاْريخ للفكر، بيْد أن تأريخ دولوز للفلسفة، لن يكون تأريخًا خطيًّا أو أفقيًّا، إذ كان يؤرخ للفلسفة من منطلق فلسفي. وتأريخ دولوز للفلسفة، لم يكن ليهتم بنقطة بداية أو نهاية، كما لن يهتم إطلاقًا بالأسئلة الفلسفية التقليدية، حول ما إذا كان نيتشه مثلًا ينتمي إلى تاريخ الميتافيزيقا، أم أنه قد توفّق في تجاوزها، لقد اهتمّ دولوز بالفلاسفة المنتمين لتاريخ الفلسفة، ولكن تحديدا بأولئك الذي كانوا ينفلتون من أسر ذلك التّاريخ ويزيغون عنه، فيرتدّون إلى هامشه، أو ينخلعون منه كليّة، ومن هؤلاء.. برغسون وسبينوزا ونيتشه وهيوم وليبنيز.
وكان دولوز يرى أنّ تاريخ الفلسفة ليس تاريخًا موحدًا، ولا متجانسًا، بل إنّه تاريخ متقطّع ومنفصل، تسود فيه الفراغات والهوامش، أكثر من مواطن الامتلاء والتّمركز، وهو تاريخ للتكرار، ينتج أوجها للتشابه بوسائل مخالفة تمامًا.
لذا اهتم دولوز ببرغسون.. كفيلسوف للاختلاف والمحايثة، على أن أهم مفهوم أثار انتباهه، هو الحدس البرغسوني، فإذا كان الحدس الديكارتي يدرك الفكرة الواضحة المتميزة والعقلانية، فإن الحدس البرغسوني أو الدولوزي، كان يعمل على إدراك الوجود دون شروط معرفيّة، أو مقولات جاهزة، فهو يدرك الديمومة كما تتجلى في الوجود، والديمومة هي شكل من أشكال التغير الأنطولوجي، الذي لا يدرَك بمنطق الثبات والحساب، لأنّها حركة حيّة عصيّة على التكميم.
ابن زمنه
لم يكن دولوز أبداً غير مبال بما كان يدور حوله، فقد عُرف في تلك الأثناء بمناصرته لانتفاضة الطّلبة في أحداث ماي 1968، وكان لا يزال يومذاك أستاذا للفلسفة بمدينة مليار. واحتلّت السّياسة بسرعة حيّزا هامّا من اهتماماته الفكريّة، فبدا الرّجل شديد الاندماج بأحداث عصره وسريع التّفاعل مع الأحداث الهامّة التي كانت تحكم نبض الشّارع الفرنسي. وسوف يظلّ في نظر الجميع، الخبير المتمكّن بالأحداث الكبرى للتّاريخ، التّاريخ الذي سوف يلهم جزءا غير قليل من أعماله.
دولوز وفيليكس غاتّري
يكون من المتعذّر حقّا الحديث عن جيل دولوز دون ذكرٍ لفليكس غاتّري الذي كان صديقه الحميم، والذي طالما تقاسم معه رغيف الفلسفة، حتّى أنّ البعض اعتبر هذا الأخير على سبيل المغالاة.. لِسانَ حال دولوز وتُرجمانه، والحال أنّ الفكر الذي جمعهما لم يكن متماثلاً بقدر ما كان قائماً على التّكامل.. ويعترف دولوز ذاته أنّه مدين لغاتّري بالكثير، لأنّ هذا الأخير مارس بالفعل تأثيرا بليغا في مقاربات صديقه الفلسفيّة. لقد كان فيليكس غاتّري هو الآخر فيلسوفاً، ولكنّه كان أيضاً عالم نفس ومناضلاً يساريّاً، ومتمرّداً دائم التأهّب لدعم قضايا العدل والدّفاع عن حقوق الأقليّات. وفي غمرة أحداث 1968 كان قد انضمّ إلى حركة «الإذاعات الحرّة»، وناصر كولوش أثناء الحملة الرّئاسيّة لسنة 1981، وكان غاتّري في ذات الوقت مناضلا حركيّا شديد التحمّس لقضايا البيئة في أبعادها الطّبيعيّة والإنسانيّة والعقليّة.