شرح أبيات قصيدة اراك عصي الدمع pdf
القسم الاول
شرح أبيات قصيدة أراك عصي الدمع
أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ * أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟
لقد استهل الشاعر قصيدته بمقدمة غزلية جريا على العادة التقليدية للشعراء الأوائل ، وهذا ليس بغريب على شاعرنا إذا نظرنا إلى مسيرة حياته التي تشرّبت الأصالة والعروبة .
يخاطب الشاعر نفسه متعجبا من مدى صبره وجلده على سلطان الحب ، فهو لا يبكي كعادة أهل الهوى المكتوين بناره ، ودمعه يقف له سندا هو الآخر فيمتنع عن الترقرق ، وهنا يحضرني على النقيض بيت الشاعر العظيم المتنبي :
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ * وجوى يزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ
فهو على عكس أبي فراس ، يعاني من نار الهوى التي حرمت جفونه النوم ، ويعتصر قلبه ألما ، وينهال دمعه سيلا .
بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة ٌ * ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ !
يعترف الشاعر بأنه يحتفظ بكل مظاهر حبه واشتياقه في صدره ، وبأنه يتألم لبعده عن الحبيبة ، لكن نفس الشاعر تأبى الخضوع لأمر الهوى ، فهو يملك القدرة على التحمّل وإخفاء مشاعره ، لكن سرعان ما تتدخل عوامل ومؤثرات تضعف نفس الشاعر وتجعل ذاته تستسلم وهو ما نلمسه في البيت التالي :
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى * وأذللتُ دمعاً منْ خلائقه الكبرُ
إذا حلّ الليل على الشاعر ، جاءت إليه الذكريات وبسط سلطان الهوى جبروته على قلبه ، فيبكي بحرقة ، لكنه لا يظهر بكاءه للناس ، فهو الجلد الصابر الذي تأبى نفسه الضعف والهوان .
بيت يتّقد شوقا
تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي * إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ
لقد وصلت شدة الوجد والشوق إلى الديار والمحبوبة بالشاعر إلى درجة أنها نار أحرقت فؤاده وجوانحه ، لكن مكانة الشاعر واعتزازه بنفسه تجعله يتجرع هذه المرارة بصمت ويكتمها في قلبه ، إنه صراع بين الكبرياء والعاطفة ، كبرياء دونه الموت أنفة وصبرا ، وعاطفة تتّقد نارا حارقة .
معللتي بالوصلِ ، والموتُ دونهُ * إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ !
يتملك خطاب الأنانية نفسية الشاعر ، فهو ينتظر ويرسم الأماني للقاء محبوبته التي يبدو أنها لا تفي بوعدها ، وبين نار شوق اللقاء و مخافة إدراك الموت للشاعر وحرمانه من وصل المحبوبة ، يدعو على كل أهل الهوى والعشق بنفس المصير .
بدوتُ ، وأهلي حاضرونَ ، لأنني * أرى أنَّ داراً ، لستِ من أهلها ، قفرُ
يقدم لنا الشاعر في هذا البيت صورة رائعة تنطق بالجمال ، فافتقاده للحبيبة جعله وحيدا رغم أنه يعيش وسط أهله ، وكأني ـ شخصيا ـ أتخيل الشاعر نازلا إلى الصحراء متخليا عن أهله الحضر ، فالدار التي لا تحوي حبيبته هي قفر خراب ، ورمس يعلوه سراب ، نفسية منهارة وملل قاتل ترياقه وجود الحبيبة .
أبيات تشعّ حكمة
هُوَ المَوْتُ، فاختَرْ ما عَلا لك ذِكْرُه * فلمْ يمتِ الإنسانُ ما حييَ الذكرُ
وما هذه الأيامُ إلا صحائفٌ * لأَحْرُفِهَا من كَفِّ كاتبها بِشْرُ
و لا خيرَ في دفعِ الردى بمذلة ٍ * كما ردها ، يوماً بسوءتهِ ” عمرو”
وَإنْ مُتّ فالإنْسَانُ لا بُدّ مَيّتٌ * وَإنْ طَالَتِ الأيّامُ، وَانْفَسَحَ العمرُ
تَهُونُ عَلَيْنَا في المَعَالي نُفُوسُنَا * و منْ خطبَ الحسناءَ لمْ يغلها المهرُ
أبيات رائعة جرت مجرى الحكم ، فصار بعضها مثلا سائرا بين الناس ، ولا عجب في ذلك ، فنفسية الشاعر الجياشة بالعاطفة والأحاسيس الرقيقة جعلت الحكم تنساب على لسانه وتجري في كيانه .