ولدى زيارة بعلبك مدينة الشمس تشعر بمتعة من عظمة معابدها التي تخفي وراءها العديد من الأسرار، فهي من دون شكّ مدينة الآثار والتاريخ وعبرها تسطع أنوار الحبّ والجمال والفرح والإبداع، كيف لا وهي مدينة المهرجانات الدولية التي صدحت في قلعتها أصوات العمالقة من السيدة فيروز التي غنت لها «بعلبك انا شمعة على دراجك…» وموسم العز» للراحلين العملاقين وديع الصافي وصباح التي تألقت باغنيتها «قلعة كبيرة وقلبها كبير وبيساع الدنيّ كلها» إلى السيدة ام كلثوم، وهي مدينة الشاعر خليل مطران والإمام الاوزاعي وقسطا بن لوقا ومدينة عبد الحليم كركلا وطلال حيدر وعاطف ياغي وعاصي الحلاني ومعين شريف ونجيب جمال الدين ورفيق شرف ويحيى ياغي وعلي حليحل… وسواهم من المبدعين.
تسميتها وموقعها
مدينة بعلبك التي تعتبر من أهم المدن السياحية في لبنان والتي حجزت لنفسها محطة تاريخية وسياحية مرموقة نظراً لما تتمتع به من موقع مميز وتحتوي على معابد وآثار رومانية ترجع لآلاف السنين، تستلقي فوق أعلى مرتفعات سهل البقاع وتقع على بعد 45 كلم من زحلة وتبعد عن شرق بيروت بمسافة (85)كلم وعلى مفترق عدد من طرق القوافل القديمة التي كانت تصل الساحل المتوسطي بالبر الشامي وشمال سوريا بفلسطين. أنشأها الفينيقيون في أوائل العام 2000 ق.م فبنوا فيها أول هيكل أهدي لإله الشمس، بعل، ومن هنا حصلت المدينة على اسمها. لكن الهيكل لا يمكن رؤيته الآن بسبب الأعمدة الرومانية التي بنيت فيما بعد في بعلبك، وقد ذكر أنيس فريحة في كتابه «أسماء المدن والقرى اللبنانية» أن أسم المدينة هو سامي ومصدره كلمتي «بعل» وتعني «مالك» أو «سيد» أو «رب»؛ و كلمة «بق» وتعني البقاع رافضا أن يكون اسم إله كما يقول البعض لعدم وجوده في اللغات السامية، فيكون معناها «إله وادي البقاع».
التجوال في أطلال مدينة بعلبك هو تجوال في قلب تاريخ لبنان القديم جدًا بكل صفحاته وأمجاده. استعمرها الرومان عام 47 قبل الميلاد في عهد يوليوس قيصر الذي أمر بأن يُبنى فيها أكبر الهياكل الرومانية التي تعكس ثروة الإمبراطورية الرومانية وقوّتها واستمر بناء المدينة مئتي عام وأشرف عليه أباطرة رومان عدة وقد أطلقواعليها مدينة الشمس.الوصول إلى هياكل بعلبك يكون عبر أروقة رومانية ضخمة وساحتين تحيط بهما أعمدة مهيبة تبدو وكأنها شخوص عملاقة تنظر إلى الشمس منذ آلاف السنين.
وتقوم بعلبك فوق مدينة من المغارات والكهوف المدفونة، كشفت عنها الحفريات وهي منتشرة في مساحة تفوق ثلاثة أضعاف مساحة المدينة لكن هذا لا يعني كثافة سكانية كبرى في القديم، فالمغارات متباعدة وفي سفح الجبل الشرقي، أشهرها (مغارة الحوت) وهناك كهوف حي الشميس وتحت الشير، ومغارات تلة الشيخ عبدالله وحي الواد والبساتين والكيال والشراونة والأخيرة تتصف بالاتساع والعمق والتداخل.
نشأتها
تعود بعلبك بتاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة قيل الميلاد، هي التي عايشت حضارات عدة، من الأشورية واليونانية إلى البيزنطية والرومانية وصولا إلى الإسلامية والعربية بكل تنوعاتها. ووفقاً للمؤرخ إصطفان الدويهي فإن:»قلعة بعلبك في جبل لبنان هي أقدم من جميع ما بناه البشر في العالم بأسره. أعني أن قايين عندما اعتراه الإرتعاش أمر ببنائها في السنة 133 من كون العالم ولقبها باسم ابنه أخنوخ». وذهب الأب مارتين اليسوعي إلى أن الشيطان أسمودي هو من هندس بعلبك واسسها لقايين بن آدم، بعدما قتل آخاه. وقال المؤرخ دافيد هيركار «إن هياكل بعلبك بُنيت قبل طوفان نوح، لأن حجارة الهياكل نقلت على ظهر الحوت، الذي إنقرض بالطوفان، وهو يكبر الفيل بعشر مرات». وشاع بين المؤرخين العرب أن «مردة سليمان هم من أشادوا هياكل بعلبك لأنها لا يمكن أن تكون من صنع البشر في وقت كتب ديودورس الصقلي نقلا عن حوريات الفينيقيين «إن شيثن إبن الإله الشمس والآلهة روديا إبنة نبتون، أسس مدينة بعلبك إكراما لوالده، ثم أقام فيها معبدا يزينه تمثال باله الشمس»، أما العالم الروسي لاجرست فرأى أن بناة بعلبك هم جماعات هبطوا من الفضاء الخارجي وعلّموا أهل بعلبك كيفية البناء وقفلوا راجعين إلى كواكبهم.
قلعتها الأثرية ومعالمها التاريخية
قلعة متجذرة في التاريخ، تعتبر من روائع العالم القديم، ومن أكثر الآثار الرومانية عظمة، وتشكل مرآة لماض ممهور بختم العز ويتعانق فيه الوحي الديني والهندسة في تناغم متكامل.
وبدأ البحث العلمي منذ القرن السابع عشر عن آثار القلعة الرومانية التي تضم معبدي جوبيتر وباخوس وإلى جانبها معبد فينوسز. ففي سنة 1751 م (وذلك قبل آخر زلزال ضرب المدينة والقلعة) قام البريطانيان روبرت وودس وجيمس دوكنز بنقش ورسم تفاصيل المباني وفيما بعد قام الفرنسي لويس فرنسوا بالعمل نفسه عام 1785 م. أما الحدث الذي أطلق الحفريات العلمية سنة 1898 في بعلبك هي رحلة الامبراطور الألماني وليم الثاني وقد أرسل عالمي آثار كي يقوما بتقدير كلفة حفريات الموقع. وبين سنتي 1900 و 1904 قام العلماء الألمان بكشف الأجزاء الرئيسية للمعابد الثلاثة وقاموا برسم كل الآثار المحفوظة. وابتداء من سنة 1930 تابع أثريون فرنسيون أعمال الحفر وخاصة معبد جوبيتر. ومنذ سنة 1943 وحتى بدء الحرب اللبنانية استلم اللبنانيون الأثريون مهام الحفر في بعلبك لتستمر بعد الحرب عمليات التنقيب والدراسات والحفريات للآثار بالتعاون مع البعثات الألمانية.
وكان الرومان قد بنوا في المدينة أضخم معابدهم الثلاثة جوبيتير وفينوس وميركوري تيّمناً بآلهتهم، ويعتبر معبد جوبيتر أضخم المعابد الرومانية على الإطلاق ولم يتبق من الأعمدة الكورينثية الـ 54 إلا 6 أعمدة فقط، أما معبد باخوس فهو مــن أفضل المعابد الرومانية حفظاً في الشرق الأوسط ويعتبر معبد باخوس أكبر من الـ «بانتيون» في أثينا، اما معبد فينوس فهو بناء أصغر من بقية المعابد، شيد جنوب شــرق المجمع. وحــوّل المعبد خلال العصر البيزنطي إلى كنيسة تكريماً للقديسة بربارة. ولم يتبق من معبد ميركوري سوى جزء من الدرج المؤدي إليه على هضبة الشيخ عبد الله، على مقربة من موقع المعبد الأساسي. وخلال الحكم الأموي بني مسجد آثاره ما زالت أمام مدخل الاكروبوليس إلى الشرق من مدخل المعبد الكبير. وعند مدخلها الجنوبي يقع مقام السيدة خولة بنت الإمام الحسين وبقايا جامع أم عياد الذي يقال أنه بني على انقاض كنيسة مار يوحنا التي بناها البيزنطيون عندما كانوا متواجدين في المنطقة.
وتضم جنبات بعلبك أكبر حجر تاريخي، حجر الحبلى عند مدخلها الجنوبي وأكبر مغارة سكنها الإنسان في الشرق مغر الطحين، بالإضافة إلى وجود المقالع الرومانية في تل الكيال ووادي الشعب ومنحدر تل الشيخ عبد الله.