0 تصويتات
بواسطة (2.8مليون نقاط)
من هو فرانز فانون

اسمي: مُذلّ، اسم عائلتي: مهان، حالتي: ثائر، والسن: عصر الحجر."

"أريد لصوتي أن يكون قاسياً، لا أريده رقيقاً، لا أريده عذباً، لا أريد له أياً من الأبعاد الأخرى. أريده ممزقاً من البداية حتى النهاية، لا أريد لصوتي نصيباً من المرح لأن الأمر يتعلق بالإنسان وقدرته على الرفض، عن عفن الإنسان اليومي، عن استقالته الأخلاقية القبيحة."

رجل في مظهره هدوء، وفي داخله غليان مستمر، أنيق اللباس، لطيف الحركة، لكنه متواضع عن إيمان، ... مرهف الحساسية، لكنه مؤمن بضرورة العنف للقضاء على الاستعمار، قدّس المبادئ التي اعتنقها إلى درجة أن طبقها في حياته ..

من نعي جريدة المجاهد

كحفيد لأولئك الذين اختطفوا من ديارهم، أبصرتَ النور في فور دي فرانس عاصمة المارتينيك في 20 يوليو 1925م، موظفًا في الجمارك كان والدك – بعكس الكثير من الشعب المارتينيكي المزارع - مما أتاح له وضعًا مميزًا في الطبقة البرجوازية الزنجية التي كانت تحاول الاندماج في المجتمع الفرنسي.

كانت ولادتك في فترة النظريات الاندماجية التي تبنتها فرنسا بعد مساهمة المارتينيك في الحرب العالمية الأولى. ومع ترددك على المدرسة، أُعجبت بالثقافة الفرنسية وأعلامها، وأحسست بنفور من اللهجة المحلية.

اندلعت الحرب العالمية الثانية وقد أنهيت جزءًا من دراستك الثانوية، فسافرت للدومنيك لتتطوع في الجيش الفرنسي باعتبارك فرنسيًا، وعمرك لا يتجاوز السبعة عشر ربيعًا.

وأثناء تطوعك، صُدمت من مستوى العنصرية في الجيش الفرنسي، فتهتز مخيلة الطفولة بعد أن تدرك الفارق الفعلي بين فرنسيتك وفرنسيتهم.

تُمنح وسامًا للشجاعة بعد إصابتك في إحدى المعارك في الجزائر عام 1954م، حيث أُرسلت إليها بعد انتهاء الحرب.

تعود إلى موطنك، تواصل تعليمك بعد انقطاع، تحصل على منحة للدراسة في فرنسا نظير خدماتك الحربية، كما تدعم أثناء وجودك في المارتينيك الحملة الانتخابية للكاتب والمرشح الشيوعي ايميه سيزار، أستاذك، وأحد أبرز دعاة الزنجية.

سافرت إلى فرنسا لدراسة الطب، (في الجامعة قال لك الأستاذ الممتحِن بلهجة مشبعة بالاستهانة: ومن أين أنت؟ آه من المارتينيك.

وكما تروي، فإن نظام الامتحان في جامعة ليون يقضي بأن يدفع الطالب يده داخل سلة؛ ليسحب منها إحدى أوراق الأسئلة معتمدًا في ذلك على حظه، ولكن الأستاذ ترفق بك قائلًا: "ما هو الموضوع الذي تريدني أن أسألك فيه؟" إلا أنك سارعت إلى دفع يدك بأنَفَة في السلة حسب العادة المتبعة).

تابعتَ دراسة الفلسفة إلى جانب الطب، ازدادت قناعتك بأنك وأمثالك من أبناء البلاد المستعمَرة، لن ترقوا إلى مستوى الفرنسي، تمزقتَ على العتبة بين إيمانك بالقيم الإنسانية، وبين وضعك كفرنسي ليس بفرنسي، واقتربت من اليسار الفرنسي.

أنهيت أطروحتك في عام 1951م، وراكمت ملاحظاتك عن المجتمع الفرنسي ومثقفيه، هالتك التناقضات بين الأفكار والممارسات، رأيت التمييز العنصري الذي يقع على العمال المهاجرين، اهتممت بمعالجتهم، وتوصلت إلى مرضهم الذي لم يستطع فهمه الأطباء الفرنسيون، مرض الغربة والاقتلاع.

تزوجت بعد ذلك بعام، كما أخرجت كتابك المدويّ "بشرة سوداء أقنعة بيضاء" في العام نفسه، نقدت فيه العنصرية الغربية المتعالية، مما وشى ببوادر قطيعة بينك وبين الحي اللاتيني الفرنسي.

في العام التالي (1953م) نجحت في المسابقة الطبية لمستشفيات الأمراض العقلية، أحببت العمل في إحدى العواصم الأفريقية، ثم زرت مسقط رأسك، عدت بعدها إلى فرنسا، وخدمت في عيادة الدكتور الإسباني توسكيل.

لم يغب عنك حلم العمل في أفريقيا، (فطلبت من الدكتور توسكيل تعيينه في إحدى مستشفيات أفريقيا، لم يرد توسكيل على طلبك، والملاحظ أن الكتب التي تتحدث عن هذا الأمر تذكر السكوت عن طلبك أو عدم الإجابة عنه، ولا تذكر أن الأمر يرفض أو يتم مناقشته مما قد يوحي أن هؤلاء لم يكونوا يرغبون في التحاقك بأفريقيا. تتحقق رغبتك عام 1953م، حين قبلت عرضًا من الولاية العامة في الجزائر للالتحاق بمستشفى البليدة للأمراض العقلية، والذي كان المستشفى الأول من نوعه في أفريقيا والذي حمل اسمك اليوم).

 

تنصدم من الطريقة المهينة التي يُعامَل بها المرضى الجزائريون، (كان معظمهم مقيدًا بالسلاسل باعتبار أنهم مجانين يشكلون خطرًا على الناس، وبدءا من تلك اللحظة قطعت علاقاتك مع فرنسا الاستعمارية.توقن بأن المرضى في ظل نظام كولونيالي تعسفي كهذا لا يمكنهم أن يشفوا من مرضهم، على العكس فإنه يزداد تفاقمًا. وبالتالي فلكي نداوي بشكل معقول المرضى الجزائريين ينبغي أولا أن نضع حدا للاستعمار الفرنسي).

كنت دائم الاحتكاك بالشعب الجزائري، تلاحظ وتحلل، أقمت علاقات صداقة، تشارك وتنظم أنشطة متعددة، مما لفت إليك أنظار المناضلين والسلطات الفرنسية معًا.

تنفجر الثورة الجزائرية في عام 1954م، ترعى الجرحى، تؤوي الناشطين، تشارك في جمع الأدوية للثوار، تتصل بجبهة التحرير الوطني وتقابل بعض أفرادها.

(في الأيام الأولى من الثورة الجزائرية كانت نسبة كبيرة من غارات الثوار فاشلة، لأن الثوار أنفسهم كانوا مذعورين أو غير أكفاء. علمت الفدائيين كيف يسيطرون على أنفسهم عند إلقاء قنبلة، وكيف تكون مواقفهم الجسدية والنفسانية عندما يتعرضون للتعذيب). صديق لك فرنسي، يقرر الرحيل عن الجزائر، لا تتمالك نفسك، تُسطر له رسالة، تُشرِح فيها المستعمِر، تهز فيها وجدانه وشعوره الآدمي، تُذكره بفظائع بلده:

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (2.8مليون نقاط)
حين صارحتني برغبتكَ في الرحيل عن الجزائر، صداقتي لك اعتراها الصمتُ فجأة. بالتأكيد صوَرٌ بازغة، صلبة، وحاسمة كانت تطرق باب الذاكرة. كنت أنظُر إليك وزوجتك بجانبك، تفكرُ في أحوالك الجديدة في فرنسا، محاطاً بوجوه جديدة، بعيداً جداً من هذا البلد الذي ساءت أحواله كثيراً منذ أيام. قلت لي: «جوّ البلاد بدأ يفسد، يجب أن أرحل».

من الجائز أن ترحل، لكن قل لي، حين يسألُك أحدهم: «ماذا يحصل في الجزائر؟»، ماذا ستفعل كي تخمد هذا العار الذي تحمِله معك؟ عارُ أنك لم تفهم، أو بالأحرى لم ترد أن تفهم ما جرى حواليكَ كل تلك الأيام. سنوات ثماني في هذا البلد. ولا حتى شذرة من هذا الجرح العظيم استطاعت أن تردعك أو تحملك على قرار. أن أكتشفك أخيراً على هذا الحال: قلِقاً على أحوال الإنسانية بأسرها، باستثناء الانسان العربي، أن أراك مهموماً، متألماً حزينا. لكن في وسط ذاك الحقل، أرى رجليك تغوصان في الوحل ذاته، في مرض الجذام ذاته، سترحل يا صديقي، وكل هذا الجذام على جسدك، وكل هذه الأسئلة بلا أجوبة. الصمت المشترك لثمانمائة ألف فرنسي هنا. هذا الصمت الجاهل، هذا الصمت «البريء». ملايين تسعة من الأمة الفرنسية تحت كفن الصمت هذا. إني أضع هذه الوثيقة بين يديك لئلا يموت شيء: لا الأموات بالأمس ولا المبعوثون اليوم).

تُكلف من قبل جبهة التحرير الوطني بمهمة الإعلام في جريدة المجاهد الناطق الرسمي باسم الثورة الجزائرية.

في عام 1956م، تقرر الاستقالة من العمل في المستشفى، لتنضم بشكل رسمي إلى جبهة التحرير الوطنية، تُرسل بخطاب الاستقالة إلى الوزير الفرنسي المقيم (لا كوست)، تشرح فيها استحالة التوافق بين المهمة الاستعمارية والعمل الطبي، وثقل وطأة الضمير والمسؤولية، تقول فيها:

(كرستُ نفسي بشكل كامل لخدمة هذا البلد وسكانه لمدة ثلاث سنوات. ولم أوفر جهودي ولا حماستي. ولم يبق أي جزء من عملي إلا طالب ببزوغ عالم متين، وتلك غاية يتمنى الجميع تحقيقها.

ولكن ما مصير حماسة المرء وقلقه إذا كان الواقع اليومي منسوجًا بالأكاذيب والنذالة واحتقار الآخر.

وما مصير النوايا إذا كان تجسيدها مستحيلاً بفعل انعدام المشاعر وعجز الفكر وكره سكان هذا البلد الأصليين؟

الجنون هو أحد السبل المتاحة أمام المرء لفقدان حريته. ويمكنني القول إني من على هذا التقاطع شعرت بالرعب حين تبين لي مقدار الحرمان لدى سكان هذا البلد. وإذا كانت المعالجة النفسية تقنية طبية هدفها أن تسمح للإنسان بعدم البقاء غريبًا عن محيطه، فعلي أن أؤكد أن العربي المحروم دومًا في بلده يعيش في حالة ضياع مطلق لشخصيته.

وما حالة الجزائر؟ يجري فيها انتزاع منظم للإنسانية.

سيدي الوزير، نصل أحيانًا إلى وقت يصبح فيه التشبث مثابرة مرضية. فلا نرى نافذة أمل مفتوحة على المستقبل، إنما حفاظًا غير منطقي على موقف ذاتي منقطع بانتظام عن الواقع.

سيدي الوزير، إن الأحداث الحالية الدامية في الجزائر لا تشكل فضيحة لمن يراقبها، فهي ليست ناجمة عن عارض طارئ أو عن عطل في النظام. إن الأحداث في الجزائر تشكل النتيجة المنطقية لمحاولة غسل دماغ جماعي باءت بالفشل. فليس من الضروري أن يكون المرء عالمًا نفسانيًا ليتبين وراء طيبة الجزائري الواضحة وخلف تواضعه البسيط حاجته الأساسية إلى الشعور بالكرامة. ولا حاجة للاستغاثة بشكل من أشكال المواطنية عند بروز ظواهر لا يمكن احتواؤها.

سيدي الوزير، إن قرار معاقبة المشاركين في إضراب 5 تموز/يوليه 1956 يبدو لي إجراء مخالفًا للمنطق بالكامل.

وبما أن الإرهاب قد مورس على أشخاص المضربين وعائلاتهم، كان لابد من تقدير موقفهم وإيجاده طبيعيًا نظرًا للجو السائد.

وعلى العامل في المدينة أن يشارك في التظاهرة الاجتماعية. إنما عليه أن يقتنع بجودة هذا المجتمع المعاش. ولكنه وصل إلى وقت أصبح فيه السكوت كذبًا.

كما أن النوايا الرئيسية بالعيش الفردي لا ترضى بالتعرض الدائم لأبسط القيم.

وهكذا، فإن ضميري يشهد منذ شهور طويلة مشادات لا ترحم. وخلاصتها الرغبة في عدم اليأس من الإنسان أي من نفسي.

وقررت ألا أتحمل مسؤولية بأي ثمن وبحجة خادعة مفادها أن هذا أفضل ما يمكنني إنجازه.

فلهذه الأسباب كلها، لي الشرف سيدي الوزير أن أطلب منكم قبول استقالتي وإنهاء مهمتي في الجزائر. وتفضلوا بقبول فائق احترامي وتقديري).

ترد السلطات الفرنسية مباشرة بطردك من العمل في الحكومة الفرنسية.

(تغادر الجزائر وتعود إلى باريس لمواصلة نضالك لصالح الشعب الجزائري. ولكن السلطات الفرنسية تصدر قرارا بطردك من البلاد، فالتحقت بتونس، حيث واصلت نشاطك بين الطب والصحافة).

وحين تفرغت للكتابة في صحافة الثورة في تطوان، بعيدًا عن أسرتك، تَوزع وقتك بين القراءة في الطب والسياسة، وبين الكتابة، كنت لا تنام إلا ساعات قلائل لا تتجاوز الخمس، وقلما تغادر مكان العمل – الذي هو في الوقت نفسه مكان الأكل والنوم – لا تخرج لاحتساء قهوة، ولا للتفرج على مكتبة، كما يذكر عنك رفيق السلاح محمد الميلي.

ويذكر عنك أيضًا بأنك (تتفاعل مع ما تكتب بشدة، تتعلق بالفكرة التي تشرح، تكره وتعادي بعنف وبصفة كلية، لا مكان عندك لمواقف البين بين، يقول عنك أنك عندما تكتب تنفعل بموضوعك بجميع عواطفك، كأنما تقد كلماتك من صخر، هذا الانفعال الكلي ينعكس حتى على قراءتك عندما تتلو للآخرين ما كتبته، كان حماسك لكتاباتك يتفجر مع كل معنى وكل فكرة بل وكل كلمة. تريد أن تنقل انفعالك إلى الكلمة، تريد من الكلمة أن تضمن نقل هذا الانفعال إلى القارئ، ومن هنا كان ذلك الشعور الذي يلمسه المستمع لك، بأن العلاقة بينك وبين ما تكتب تكاد تكون علاقة حسية).

يقص علينا صديقك الآخر فرانسيس جانسون في المقدمة التي وضعها لكتابك الأول:

أنه كتب لك ذات يوم يستوضح عن معنى فقرة بدت له غامضة، فأجبته بما يلي: "هذه الجملة غير قابلة للشرح، إني أبحث عندما أكتب عن مثل هذه الأشياء، أريد أن أصل إلى قارئي عاطفيًا، أي بكيفية لا عقلانية، بكيفية حسية تقريبًا". ثم تضيف: "إن للكلمات عندي شحنة، إني أشعر بعجزي عن التخلص من عضة كلمة، أو من دوار علامة استفهام".

 .
بواسطة (2.8مليون نقاط)
كنت قبل انضمامك للثورة الجزائرية إنسانيًا "تدعو إلى إطلاق العنان للإنسان"، وتسعى لتحرير الإنسان الأنتيلي من أجل حياة أفضل ضمن النطاق الفرنسي، لم تكن تسعى لاستقلال وطني، ولم يدر بخلدك الثورة على الاستعمار الفرنسي بوصفه جهازًا متكاملًا، بل كنت تنظر إلى الاستعمار من الزاوية الطبقية لا الوطنية، ويحكى عنك قولك: " أية حكاية هذه هي حكاية الشعب الأسود والوطنية الزنجية؟ فأنا فرنسي وأهتم بالثقافة الفرنسية، بالحضارة الفرنسية، بالشعب الفرنسي، إننا نرفض أن نعتبر أنفسنا على الهامش، إننا في صميم المأساة الفرنسية"، كنت تحارب العنصرية وتبغضها انطلاقًا من موقفك الإنساني، لا تختلف في ذلك عن سارتر، ولهذا لم يكن عنفك وصراخك ضد العنصرية البيضاء يقل عن عنفك وصراخك ضد الزنوجة؛ لأنها باعتبارها متولدة عن العنصرية البيضاء نقيضة لها، كانت خالية مثلها من البعد الإنساني الهيومانيزم.

كنت تحتضن الماضي الغربي، وترفض غيره.

(ولكن بعد قيام الثورة الجزائرية. لم يكن ممكنًا أن تستمر في تمسكك بالإطار الفرنسي).

تفاجأت أن المدنيين الأوروبيين المستعمِرين في الجزائر – والذين ظننت بأنهم سيصطفون مع الشعب المضطهَد – قد باشروا العمل ضد الثورة بقتل المدنيين الجزائريين، ناسفين تصوراتك عن التضامن الطبقي، فيما كان العسكريون يقصفون المدن والقرى بالقنابل والصواريخ.

(كيف يستطيع الأوروبي الصغير عاملًا كان أو تاجرًا أو فلاحًا أن يتخذ هذا الموقف ويغفل عن مشاهدة بؤس الجزائريين؟

شيء ما في تفكير اليسار، ليس على ما يرام.

خلل ما ولا شك يوجد في الفكرة التي اعتنقتها في نطاق اليسار، وفي الإطار الفرنسي، عزمت على البحث حتى تكتشف الحقيقة.

كانت بداية، خرجت بها من التساؤل الأصغر إلى التساؤل الأكبر، من التساؤل عن مصير الإنسان الفرد، إلى التساؤل عن مصير الوطن.

لذا لم يكن من محض الصدفة أن تكون أول دراسة نظرية مطولة قمت بها بعد تفرغك للعمل في صفوف الثورة بصفة عامة، وللتحرير في "المجاهد" بصفة خاصة هي سلسلة مقالات ثلاث بعنوان: "المثقفون والديمقراطيون الفرنسيون أمام الثورة الجزائرية").

كانت هذه المقالات مانفستو لمرحلة فكرية مغايرة، بعد علاقة طبيعية مع اليسار الفرنسي، والذي اكتشفت أنه يظل فرنسيًا قبل كل شيء.

"أراني هذا اللقاء فانون تحت ضوء جديد، فقد وجدته أكثر جاذبية وأكثر بعدَا في آن واحد، كان يُظهر احتقارًا كبيرًا لكل ما يجري بفرنسا، ولكل ما كنا نحاوله وللتنظيم نفسه الذي يسهل له مهمة المرور إلى تونس، ولم نكن نحن موجودين في نظره."

هذا ما دونه فرانسيس جانسون عنك بعد لقائكما في عام 1957م، بعد اللقاء الأول بينكما في عام 1952م.

(لم تفهم تردد اليسار الفرنسي وميوعته، كنت تقيس اليسار بمقياسك، كنت من شدة انسجامك السابق مع اليسار الفرنسي تتصور أنه ما دمت قد اتخذت هذا الموقف واندمجت بالثورة الجزائرية، فإن في استطاعة الآخرين أن يفعلوا نفس الشيء.

كنت تقول لسارتر: "لنا عليكم حقوق، فكيف تستطيعون أن تستمروا في حياة عادية وتكتبون؟"

وفي ذات يوم من ربيع 1957م في مكان ما من باريس، كنت تنتظر تسهيل مرورك، لتلتحق نهائيًا بالثورة الجزائرية.

وكان ذلك آخر عهدك بفرنسا ويسارها، لقد كنت مسافرًا دون عودة).

كنت تحس بالأسف لأنك لم تحارب في سبيل موطنك، كان حلمك بفيدرالية كاريبية مصطدمًا بعقبات كبيرة.

في عام 1959م ينفجر بك لغم أرضي على الحدود المغربية الجزائرية، تُصاب باثني عشر كسرًا في عمودك الفقري، تذهب للعلاج في روما، تتعرض السيارة التي كانت ستنقلك لعمل تخريبي على يد إرهابيي اليد الحمراء، لكنها تنفجر قبل الموعد المحدد لتقتل طفلين، وبينما كنت في المستشفى في روما، يتسلل عدد من المجرمين إلى غرفتك – التي انتقلت عنها لحسن الحظ - ويطلقون النار على السرير الخالي.

أثناء مهمتك في أكرا، تصاب بسرطان الدم، تسافر إلى الاتحاد السوفييتي للعلاج، لكنهم ينصحونك بالسفر إلى امبراطورية الامبريالية والعنصرية التي تكرهها.

بعد ست سنوات من النشاط الثوري، تهبط في الولايات المتحدة مثقلًا في عام 1962م، يتم احتجازك من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لعشرة أيام.

تهمس لصديقك جومينر: "لقد علمتُ أن لديّ ثلاثة أو أربعة أعوام أخرى أعيشها، ولهذا أصبح من الضروري إلى أن أُسارع إلى قول وعمل أقصى ما أستطيع، ولكن إخوتي الجزائريين طلبوا مني أن أعني بصحتي".

ورغم نصائح الأطباء لك بالراحة، تبدأ في سباق مع الموت لإنجاز ما اعتبرته مهمتك الأخيرة، أخذت تملي على زوجتك "معذبو الأرض"، تفرغ منه في عشرة أشهر، ترسله للناشر دون مراجعة، يصدر في باريس، تقرأه عليك زوجتك وأنت بين الحياة والموت.

تنطفئ في كانون الأول من عام 1961م أيها الطبيب النفسي والمفكر الاجتماعي، بعد وصيتك لرفاقك طلاب الحرية بالدفن في الجزائر.

الجزائريون، نقلوا جثمانك بطائرة، دفنوك في الأرض التي أحببت، رغم الألغام، والأسلاك المكهربة، والجنود.

بعد ثمانية أشهر، تعترف فرنسا باستقلال الجزائر.

اتساقًا مع المبادئ التي عشت ومت لأجلها، تحذف زوجتك مقدمة سارتر لـ معذبو الأرض، احتجاجًا على مشاركته في دعم الصهاينة في حرب 1967م، بغض النظر عن إسهاماته السابقة.

في يونيو من العام 1988م، تقوم زوجتك بزيارة لحيث يرقد جسدك، تنعطف إلى تونس لتستعيد ذكريات خلت، ترتب أشياءها بعناية، تعود إلى الجزائر، وقد أضمرت في نفسها اللحاق بك، في 13 يوليو 1989م، ترمي بنفسها من نافذة في الطابق الخامس.

من وراء رفاتك، يهتز قبر أنطونيو رغم المسافات الزمانية والمكانية، يتقدم إليك، تُحني رأسك، يُقلدك وسام المثقف العضوي الغرامشي

اسئلة متعلقة

0 تصويتات
1 إجابة
0 تصويتات
1 إجابة
سُئل نوفمبر 15، 2019 في تصنيف مناهج بواسطة Ahmed (2.8مليون نقاط)
مرحبًا بك إلى حلول، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...