تحضير النص المسترسل الطاحونة
لماذا أنت قادم؟
صرخت صرختها وعيناها مسمان في وجهه تبحثان عن جواب قبل أن تنطق به شفتاه. كانت هلعة قلقة، فهي تعرف أنه لا يعود به - في ساعته تلك وفي أيام كلها عمل – إلا شر.
وتجنبت عيناه النظر إلى وجهها حتى لا تفضحاه. ومع ذلك كانت نافذة الحدس فأضافت:
- خصومة جديدة مع "المعلم"؟
واستأنفت ساخرة:
- أم تراه أصبح مريضا لم يفتح المطحنة ... !؟
- لا هذا، ولا ذاك … أقصد: قد يكون أصبح مريضا .. المهم أننا اليوم في عطلة...
قاطعته حتى لا تترك له سبيلا للتحدي ثم أضافت:
- أخبرني لماذا عدت وما يزال الوقت ضحى؟
- عدت لآكل لقمة خبز... لآكل... أليس لي حق في أن آكل؟
فقالت وقد مس حنان الأم صدرها:
- أما تزال دون إفطار...؟ "المعلم" لم يفطر...؟
...أجهش بالبكاء متأثرا من جوعه ولم يمسك دموعه حتى يستطيع التأثير على أمه، ولكنها كانت قد انصرفت صامتة. فقد عقد لسانها أن ابنها جائع. انصرفت لتعد له بعض الطعام.... وتركته يفكر:
- مرة أخرى أصبح في الشارع .. عبئا ثقيلا على هذه الأم التي تشتغل يوما تتعطل أياما. أصبحت مثل إخوتي كنزة وعائشة والجيلالي .. قد تتركني أمي معهم رهينة تحت رعاية الجارة « للا خدوج» إذا ما خرجت للعمل..!
وتداعى إلى فكره مع كلمة «العمل»:
- وأين أجد العمل؟ الأولاد من أمثالي يملأون الشوارع لاعبين يقتلون وقتهم وشبابهم... "المعلمين" أقل من الأولاد .. المطاحن؟ أعوذ بالله من المطحنة .. ولكني تعلمت عمل المطحنة فكيف أبدأ عملا جديدا، ومع وجه جديد من وجوه "المعلمين" ..؟ التدولاي..؟
... انتهى علي من إفطاره وتحملت فاطمة المائدة متشاغلة بغسل (البراد) والكأس وهي تفكر :
ترى ماذا عاد به من العمل؟ خصومة جديدة مع "المعلم"؟ .. ليس بوجهه أثر للضرب... "المعلم" أصبح مريضا؟ لو كان مريضا لعاد منذ الصباح الباكر…
لا عمل في المطحنة؟ لو كان الأمر كذلك لأفصح ... ولكن ليس من عادته أن يعود ولو لم يكن بالمطحنة عمل... تراه طرد ...؟
واستلها من تفكيرها طرق عنيف على باب المنزل، فهرع علي إلى أمه وهو يشر بسبابته على فمه، أن «لا تقولي إني هنا».
وبدأت تدرك .. غير أن طرق الباب استمر بعنف لم يترك لفكرها أن ينتهي إلى إدراك. وتداعى إلى أذنيها صوت "المعلم" التدلاوي :
- آللا فاطمة .. آفاطمة ... أين ذاك الشقي؟
ونظرت فاطمة إلى علي في حقد مليء بالإشفاق وهي تشير إليه أن يخرج إلى "المعلم"، فاعتصم بركن الغرفة المظلمة وهو يشير إليها بسبابته: أن لا.
خرجت فاطمة إلى الباب مشفقة مما ستلاقي من إحراج، وهي لا تدري بماذا سيصدمها "المعلم" التدولاي، ولا تدري بماذا تجيب. وما يزال السؤال: أين ذاك الشقي؟ يتردد في أذنيها كأن صوت "المعلم" ما يزال يهتف به. عز على فكرها المكدود أن يفكر في الجواب وهي تجتاز الطريق بين الغرفة والباب. بدا لها طريقا طويلا محفوفا بالأشواك. وأخذت تمشي على مهل كأنما لتؤجل المواجهة ريتما يتفتق ذهنها عن فكرة. ولكن الطرق استمر بعنف، وفكرت في الجيران.
ماذا سيقول الجيران؟ روعة أخرى يشها التدلاوي من أجل هذا الشقي: علي؟
لفت الدوامة السؤال كما لفت كل ما فكرت فيه وهي تسحب مزلاج الباب لتواجه "المعلم" التدلاوي بوجهه الكالح وعينيه الجاحظتين ولحيته المرتعشة وصوته الأجش وبصاقه المتطاير من بين أسنان تناثرت في غير انتظام تحت شفتين يابستين. وابتعدت فاطمة قليلا عن متناول اليدين وهما تتحركان في عنف كأنما تعبران عما عجز لسانه أن يبين عنه، وعقد الخوف لسانها فلم تزد على:
- صباح الخير " المعلم".
ضاعت تحيتها في الزوبعة الثائرة، فلم تسمع تحية ولا رد تحية. ولكنها مع ذلك أرهفت أذنيها واستجمعت فكرها، وحدقت طويلا في فم "المعلم" تستعين بعينيها على فهم ما عجز فكرها أن يفهمه وما عجزت أذناها أن تدركه. فلم تتبين رغم إجهاد غير كلمات متناثرة: "الحمار . الفول .. تأخر .. الجوع... الدار .."
عز عليها أن لا تفهم واستحال عليها أن تستوضحه أو تستوقفه قليلا… وتركت "المعلم" ينفس عن ثورته حتى انتهى من صراخه وهو يعلن:
- والآن أين هو؟
- ولكن ماذا صنع آسيدي "المعلم" قل لي ماذا صنع ذلك الشقي؟
وبهت الرجل فزادت عيناه جحوظا وازدادت نفسه اضطرابا، وازداد صراخه وهو يجيب:
- أنت الأخرى صماء..؟ ألم تفهمي ما قلت منذ الصباح؟ ذلك الشقي هرب.. هرب..
وحاولت أن تقاطعه…
ولكن "المعلم" التدلاوي استمر والكلمات تتفجر من حلقه كما لو كانت تنزل من شلال متعثرة في صخوره:
- ... هرب «بزلافة» الفول والخبزة، هرب ليأكلها. وتوقف قليلا، ثم أضاف: - -... سما زعافا إن شاء الله في بطنه...
وعز على الأم المذعورة أن تسمع هذا الدعاء الطالح على ابنها وهي ما تزال تؤمن أن "المعلم" التدلاوي رجل يصلي الصبح في وقته، ولا شك أن دعواه مستجابة. أجفلت وهي تسمع الشتيمة، وتصورت ابنها وهو يتلوى من ألم السم الزعاف، فاستنهضت همتها لتقول للمعلم:
- آسيدي "المعلم" .. حرام عليك
-حرام علي ... يهرب ويأكل «زلاقة» الفول والخبزة ثم حرام علي...؟ أنت الأخرى متواطئة معه .. لو لم تكوني متواطئة معه لما جرؤ على الهروب (بزلافة) الفول...
... وعز عليها أن تواجهه بالهجوم فلم تقف في موقفها ذاك قبل الآن. وإنما نظرت إليه بعينين حاقدتين ثم صفعت الباب في وجهه بعنف وكلماته الأخيرة تتسرب إلى سمعها:
- والله لن تطأ رجله أرض المطحنة عمره…
عادت وهي تتحدث إلى نفسها بصوت مسموع وكأنها تخاطب عليا:
- هذا ما ينوبني منك .. رجل يأتي إلى باب المنزل ليهزأ بي وينال من كرامتي..
ونظرت إلى شبحه، فوجهه لا يكاد يبين، وقالت بصوت مخنوق:
- سمعت ...؟ سمعت الفضيحة التي سببتها لي؟
- ظلمني "المعلم"
- وما حكاية (زلافة) الفول ..؟ قلبتها في الطريق؟ .. فهمت .. أنت عملتها .. وهو بقي جائعا .. وأنا سمعت ما لا يرضي …
- لا تهتمي بكلامه .. ذاك رجل أحمق.
- والله يا بني ليس هناك أحمق غيرك، هو عاد الآن إلى عمله.. والأطفال غيرك كثير، أما أنت فيجب أن تبحث منذ الآن عن عمل .. قالتها وصعدت آهة حرى عادت بها إلى الواقع المر.
رواية «المعلم علي»
الطبعة 3 - 1983 شركة الطبع والنشر-
الدار البيضاء، ص 76 إلى 91 (بتصرف)
أولا: تأطير النص: